0
الإمام أحمد بن حنبل أحد الأئمة الأربعة , مؤسس المذهب الحنبلي

سيرة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله نسبه,حياته,علمه,مؤلفاته,وفاته

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على خير البشر محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه وأقتفى أثره الى يوم الدين   أما بعد أحبتي في الله  حديثنا اليوم عن الإمام العلم , الثبت البطل , شيخ الإسلام وإمام أهل السنة , و أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب السنية الشهيرة، مؤسس المذهب الحنبلي  رحمه الله تعالى 
هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان

وُلِد  في بغداد سنة 164هـ / 780م في شهر ربيع الأول  وكان محمد والد أبي عبد الله من أجناد مرو ، مات شابا له نحو من ثلاثين سنة . ورُبي أحمد يتيما ، وقيل : إن أمه تحولت من مرو ، وهي حامل به.
قال صالح بن أحمد بن حنبل، قال لي أبي : ولدت في ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة قال صالح بن أحمد بن حنبل : جيء بأبي
حمل من مرو ، فمات أبوه شابا ، فوليته أمه. " أبيه حين توفي ثلاثين سنة  وأما أحمد، فكان طفلاً حين توفي أبوه، ولذلك وليته أمه. "

نشأة الإمام أحمد 

نشأ الإمام أحمد بن حنبل يتيمًا، وكسائر أترابه تعلم القرآن في صغره، وتلاه تلاوة جيدة وحفظه عن ظهر قلب، وعندما تجاوز الخامسة عشرة من عمره بدأ يطلب العلم، وأول من طلب العلم عليه هو الإمام أبو يوسف القاضي، والإمام أبو يوسف   كما هو معلوم   من أئمة الرأي مع كونه محدِّثًا، ولكن مع مرور الوقت وجد الإمام أحمد أنه يرتاح لطلب الحديث أكثر، فتحوَّل إلى مجالس الحديث، وأعجبه هذا النهج واتفق مع صلاحه وورعه وتقواه، وأخذ يجول ويرحل في سبيل الحديث حتى ذهب إلى الشامات والسواحل والمغرب والجزائر ومكة والمدينة والحجاز واليمن والعراق وفارس وخراسان والجبال والأطراف والثغور، وهذا فقط في مرحلته الأولى من حياته. ولقد التقى الشافعي في أول رحلة من رحلاته الحجازية في الحرم، وأُعجِبَ به، وظلَّ الإمام أحمد أربعين سنة ما ييبت ليلة إلا ويدعو فيها للشافعي. وقد حيل بين أحمد ومالك بن أنس فلم يوفَّق للقائه، وكان يقول: " لقد حُرِمتُ لقاء مالك، فعوَّضني الله عز وجل عنه سفيان بن عيينة "

قال ابن الجوزي : ابتدأ أحمد رضي الله عنه في طلب العلم من شيوخ بغداد ثم رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة، وكتب عن علماء كل بلد، ثم ذكر أسماء من لقي من كبار العلماء وروى عنهم مرتبين على حروف المعجم من الألف إلى الياء

شيوخ الإمام أحمد

هشيم، وسفيان بن عيينة، وإبراهيم بن سعد، وجرير بن عبد الحميد، ويحيى القطان، والوليد بن مسلم، وإسماعيل بن علية، وعلي بن هاشم بن البريد، ومعتمر بن سليمان، وعمر بن محمد ابن أخت الثوري، ويحيى بن سليم الطائفي، وغندر، وبشر بن المفضل، وزياد البكائي، وأبو بكر بن عياش، وأبو خالد الأحمر، وعباد بن عباد المهلبي، وعباد بن العوام، وعبد العزيز بن عبد الصمد العمي، وعمر بن عبيد الطنافسي، والمطلب بن زياد، ويحيى بن أبي زائدة، والقاضي أبو يوسف، ووكيع، وابن نمير، وعبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، والشافعي، وغيرهم.  

تلاميذ الإمام أحمد

البخاري، ومسلم، وأبو داوود، وابناه صالح وعبد الله، وشيوخه عبد الرزاق، والحسن بن موسى الأشيب. ومن تلاميذه أيضًا أبو بكر المروزي الفقيه، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو بكر الأثرم، وإبراهيم الحربي، ويحيى بن معين، وغيرهم كثير.

علم الإمام أحمد وأخلاقه 

من المعلوم أن العلم وسيلة للعمل ومصحح له، فالغاية المطلوبة هي العمل الصالح والعلم وسيلة لتلك الغاية وفي الحكمة المأثورة: " علم بلا عمل كشجر بلا ثمر "، والله تعالى يقول: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }. الآية 282 من سورة البقرة.

والصحابة رضي الله عنهم يقول قائلهم: ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن، قالوا فتعلمنا العلم والعمل جميعاً، وكان سلفنا الصالح على هذه الصفة، ومنهم الإمام أحمد فقد اتصف بالعلم الغزير والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة.
ذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة قال: وعن عبد الله بن أحمد قال كان أبي أصبر الناس على الوحدة، لم يره أحد إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض، وكان يكره المشي في الأسواق. 
وعنه قال: كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط (( يعني الأسواط التي ضربها بسبب امتناعه من القول بخلق القرآن في عهد المعتصم.)) أضعفته فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة، وقد كان قرب من الثمانين وكان يقرأ في كل يوماً سبُعاً يختم في كل سبعة أيام، وكانت له ختمة في كل سبع ليال سوى صلاة النهار، وكان ساعة يصلي عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو، وحج أبي خمس حجات، ثلاث حجج ماشياً واثنتين راكباً، وأنفق في بعض حجاته عشرين درهم، وعنه قال: كنت أسمع أبي كثيراً يقول في دبر الصلاة: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك صنه عن المسألة لغيرك، وقال صالح بن أحمد بن حنبل: ورد كتاب علي بن الجهم: أن أمير المؤمنين (يعني المتوكل) قد وجه إليك يعقوب المعروف بقوصرة ومعه جائزة ويأمرك بالخروج، فالله الله أن تستعفي أو ترد المال فيتسع القول لمن يبغضك، فلما كان من  الغد ورد يعقوب فدخل عليه فقال: يا أبا عبد الله أمير المؤمنين يقرئك السلام، ويقول قد أحببت أن آنس بقربك وأن أتبرك بدعائك  وقد وجهت إليك عشرة آلاف درهم معونة على سفرك وأخرج صرة فيها بدرة نحو مائتي دينار والباقي دراهم صحاح، فلم ينظر إليها ثم شدها يعقوب، وقال له أعود غداً حتى أبصر ما تعزم عليه، وانصرف فجئت بإجانة خضراء فكببتها على البدرة، فلما كان عند المغرب قال: يا صالح خذ هذا فصيره عندك، فصيرتها عند رأسي فوق البيت، فلما كان سحراً إذا هو ينادي يا صالح فقمت فصعدت إليه فقال: ما نمت ليلتي هذه فقلت: لم يا أبت؟ فجعل يبكي وقال: سلمت من هؤلاء حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، قد عزمت على أن أفرق هذا الشيء إذا أصبحت فقلت ذاك إليك، فلما أصبح قال: جئني يا صالح بميزان، وقال: وجهوا إلي أبناء المهاجرين والأنصار. ثم قال: وجه إلى آل فلان، فلم يزل يفرقها كلها ونفضت الكيس ونحن في حالة الله تعالى بها عليم، وكتب صاحب البريد أنه قد تصدق بالدراهم من يومه حتى تصدق بالكيس، قال علي بن الجهم فقلت يا أمير المؤمنين قد علم الناس أنه قد قبل منك، وما يصنع أحمد بالمال وإنما قوته رغيف، فقال لي صدقت يا علي وبهذه النقولات عن ابني الإمام وقد عايشا أباهما معايشة خاصة أكبر دليل على مدى صلاح الإمام أحمد وتقواه وزهده وورعه.

وأما تواضعه

فقد قال ابن الجوزي بلغني عن أبي الحسين بن المنادي قال : 
سمعت جدي يقول: كان أحمد من أحب الناس وأكرمهم نفساً وأحسنهم عشرة وأدباً، كثير الإطراق، معرضاً عن القبيح واللغو، لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث، وذكر الصالحين والزهاد في وقار وسكون ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان بش به وأقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعاً شديداً وكانوا يكرمونه ويعظمونه، قال الخلال: وأخبرني محمد بن الحسين أن أبا بكر المروذي حدثهم قال: كان أبو عبد الله لا يجهل، وإن جهل عليه احتمل وحلم، ويقول: يكفى الله، ولم يكن بالحقود ولا العجول، ولقد وقع بين عمه وجيرانه منازعة فكانوا يجيئون إلى أبي عبد الله فلا يظهر لهم ميله مع عمه ولا يغضب لعمه، ويتلقاهم بما يعرفون من الكرامة، وكان كثير التواضع يحب الفقراء، لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلسه، مائلاً إليهم مقصراً عن أهل الدنيا، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعض العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر يقعد حيث انتهى به المجلس، وكان لا يمد قدمه في المجلس ويكرم جليسه، وكان حسن الخلق، دائم البشر، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، وكان يحب في الله ويبغض في الله، وكان إذا أحب رجلاً أحب له ما يحب لنفسه، وكره له ما يكره لنفسه ولم يمنعه حبه إياه أن يأخذ على يديه ويكفه عن ظلم وإثم أو مكروه إن كان منه، وكان إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق أو اتباع للأمر سأل عنه وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة. وأحب أن يعرف أحواله، وكان رجلاً فطناً. إذا كان شيء لا يرضاه اضطرب لذلك، ويغضب لله ولا يغضب لنفسه فلا ينتصر لها، فإذا كان في أمر من الدين اشتد له غضبه حتى كأنه ليس هو، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان حسن الجوار، يؤذى فيصبر ويحتمل الأذى من الجار... انتهى.

هذه أخلاق الإمام أحمد. علم وعمل وتواضع وصبر واحتمال، وجدير بمن تربى على الكتاب والسنة وتتلمذ على العلماء العاملين وخالط الصالحين أن يكون كذلك، بخلاف من يتربى على نظريات الفلاسفة وأفكار الغرب فإنه يتأثر بها ويتخلق بها، فيجب على المسلمين أن يوجهوا أولادهم إلى الكتاب والسنة وأخلاق السلف الصالح، ليتربوا التربية الصحيحة، ويتوجهوا الوجهة السليمة ويتركوا استيراد النظريات التربوية من الكفار وفلاسفة الغرب.

ماقيل عن الإمام أحمد

قال القواريري : قال يحيى القطان : ما قدم علينا مثل هذين؛ أحمد ويحيى بن معين . وما قدم عليّ من بغداد أحب إليّ من أحمد بن حنبل . 

قال شجاع بن مخلد : سمعت أبا الوليد الطيالسي ، يقول : ما بالمصرين رجل أكرم عليّ من أحمد بن حنبل . 
وقال محمد بن سهل بن عسكر : سمعت عبد الرزاق ، يقول : إن يعشْ هذا الرجل ، يكون خلفا من العلماء . 
وعن أحمد بن سنان قال: "ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيمًا منه لأحمد بن حنبل، ولا رأيته أكرم أحدًا كرامته لأحمد بن حنبل، وكان يقعد إلى جنبه إذا حدثنا، وكان يوقره ولا يمازحه، ومرض أحمد فركب إليه فعاده".
وقال عبد الرزاق : ما رأيت أحدا أفقه ولا أورع من أحمد بن حنبل . قلت : قال هذا ، وقد رأى مثل الثوري ومالك وابن جريج . 
وقال حفص بن غياث : ما قدم الكوفة مثل أحمد . 
وقال قتيبة : خير أهل زماننا ابن المبارك ، ثم هذا الشاب ، يعني : أحمد بن حنبل ، وإذا رأيت رجلا يحب أحمد ، فاعلم أنه صاحب سنة . ولو أدرك عصر الثوري ، والأوزاعي ، والليث ، لكان هو المقدم عليهم . فقيل لقتيبة : يضم أحمد إلى التابعين ؟ قال : إلى كبار التابعين . 
وقال قتيبة : لولا الثوري ، لمات الورع ، ولولا أحمد لأحدثوا في الدين ، أحمد إمام الدنيا .
قال المُزَني : قال لي الشافعي : رأيت ببغداد شابا إذا قال : حدثنا ، قال الناس كلهم : صدق . قلت : ومن هو ؟ قال : أحمد بن حنبل . 
وقال حرملة : سمعت الشافعي يقول : خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلا أفضل ، ولا أعلم ، ولا أفقه ، ولا أتقى من أحمد بن حنبل . 
وقال النُّفيلي : كان أحمد بن حنبل من أعلام الدين . 
وقال ابن معين : أرادوا أن أكون مثل أحمد ، والله لا أكون مثله أبدا . 
وقال عبد الله بن أحمد : قال أصحاب بشر الحافي له حين ضرب أبي : لو أنك خرجت فقلت : إني على قول أحمد ، فقال : أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء ؟!. 
قال إمام الأئمة ابن خزيمة : سمعت محمد بن سحتويه ، سمعت أبا عمير بن النحاس الرملي ، وذكر أحمد بن حنبل ، فقال : رحمه الله ، عن الدنيا ما كان أصبره ، وبالماضين ما كان أشبهه ، وبالصالحين ما كان ألحقه ، عرضت له الدنيا فأباها ، والبدع فنفاها . 
وقال ابن وارة : كان أحمد صاحب فقه ، صاحب حفظ ، صاحب معرفة. 
وقال النسائي : جمع أحمد بن حنبل المعرفة بالحديث والفقه والورع والزهد والصبر .
وعن عبد الوهاب الوراق قال : لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : فردوه إلى عالمه رددناه إلى أحمد بن حنبل ، وكان أعلم أهل زمانه . 
وقال أبو داوود : كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة ، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا ، ما رأيته ذكر الدنيا قط . 
وعن إبراهيم الحربي قال: "رأيت أحمد بن حنبل كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء ويمسك ما شاء".
وقال وكيع، وحفص بن غياث: "ما قدم الكوفة مثل أحمد بن حنبل". 
وكان ابن مهدي يقول: "ما نظرت إليه إلا ذكرت به سفيان الثوري، ولقد كاد هذا الغلام أن يكون إمامًا في بطن أمه".

 محنة الإمام أحمد وصلابته في الحق 


قال الحافظ ابن كثير رحمه الله باب ذكر ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل / في أيام المأمون ثم المعتصم ثم الواثق بسبب القرآن العظيم. وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب وقلة مبالاته بما كان منهم من ذلك إليه وصبره عليه وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم، وكان أحمد عالماً بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة والأخبار المأثورة. وبلغه بما أوصي به في المنام واليقظة فرضي وسلم إيماناً واحتساباً وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة، وهيأه الله بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه، ثم قال ابن كثير رحمه الله: وقد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل  قال البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب
السلف ومنهاجهم، فلما ولي الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك، وزينوا له، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة 218 هـ ، فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح الجند يسابورى، فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك. وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد  فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، قال فجثى الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته، قال فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، قال أحمد ففرحنا ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسرى ونالني منهم أذى كثير، وكان في رجليه القيود ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد  فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان فأودع السجن نحواً من ثمانية وعشرين شهراً وقيل نيفاً وثلاثين شهراً، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم، وكان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه، ولما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها  فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاءوني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود. وليس معي أحد يمسكني فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم فأدخلت في بيت وأغلق علي. وليس عندي سراج فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه ثم قمت ولا أعرف القبلة فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد ثم دعيت فأدخلت على المعتصم.

وذكر ابن كثير رحمه الله المناظرة التي دارت بينه وبين خصومه بحضرة المعتصم في موضوع خلق القرآن إلى أن قال: ثم لم يزالوا يقولون له يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل كافر، فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين –ويقول له يعني المعتصم شد قطع الله يدك ويجيء الآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك، فضربوني أسواطاً فأغمي علي وذهب عقلي مراراً فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه  وجعلوا يقولون: ويحك الخليفة على رأسك فلم أقبل. فأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء الثالثة فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد أطلقت الأقياد من رجلي، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفاً وثلاثين سوطاً، وقيل ثمانين سوطاً ولكن كان ضرباً مبرحاً شديداً جداً، ولما رجع إلى منزله جاء الجراح فقطع لحماً ميتاً من جسده وجعل يداويه، ولما شفاه الله بالعافية بقى مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد ثم مُنع من الاجتماع بالناس في عهد الخليفة الواثق (227- 232هـ/ 841- 846م)، لا يخرج من بيته إلا للصلاة، حتى إذا ولي المتوكل الخلافة سنة (232هـ/ 846م)، فمنع القول بخلق القرآن، وردَّ للإمام أحمد اعتباره، فعاد إلى الدرس والتحديث في المسجد.   وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } الآية، ويقول ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك . انتهى باختصار.

وهكذا ثبت الإمام أحمد رحمه الله على الحق، وصبر على السجن والضرب ولم تأخذه في الله لومة لائم، ولم ترهبه السلطة والجبروت، فكانت العاقبة والعقوبة لأعدائه، ومع هذا يعفو ويصفح عن خصومه ويجعلهم في حل ما عدا المبتدعة  لأن المبتدعة انتهكوا محارم الله ولم تكن إساءتهم قاصرة عليه، إنه الإيمان الراسخ والتربية النافعة المستمدة من الكتاب والسنة يصنعان الرجال، ويبعثان على الثبات في مواقف الفتن والأهوال، وهكذا تكون مواقف الأبطال.

منهج الإمام أحمد العلمي

اشتُهِرَ الإمام أحمد أنه محدِّث أكثر من أن يشتهر أنه فقيه، مع أنه كان إمامًا في كليهما. ومن شدة ورعه ما كان يأخذ من القياس إلا الواضح وعند الضرورة فقط، وكان لا يكتب إلا القرآن والحديث، من هنا عُرِفَ فقه الإمام أحمد بأنه الفقه بالمأثور؛ فكان لا يفتي في مسألة إلا إن وجد لها من أفتى بها من قبل، صحابيًّا كان أو تابعيًّا أو إمامًا. وإذا وجد للصحابة قولين أو أكثر، اختار واحدًا من هذه الأقوال، وقد لا يترجَّح عنده قول صحابي على الآخر، فيكون للإمام أحمد في هذه المسألة قولان.

وهكذا فقد تميز فقهه أنه في العبادات لا يخرج عن الأثر قيد شعرة، فليس من المعقول عنده أن يعبد أحدٌ ربه بالقياس أو بالرأي؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي "، وقال في الحج: "خذوا عني مناسككم".

وكان الإمام أحمد شديد الورع فيما يتعلق بالعبادات التي يعتبرها حق لله على عباده، وهذا الحق لا يجوز مطلقًا أن يتساهل أو يتهاون فيه. أما في المعاملات فيتميز فقهه بالسهولة والمرونة والصلاح لكل بيئة وعصر، فقد تمسَّك أحمد بنصوص الشرع التي غلب عليها التيسير لا التعسير. مثال ذلك: "الأصل في العقود عنده الإباحة ما لم يعارضها نص"، بينما عند بعض الأئمة الأصل في العقود الحظر ما لم يرد على إباحتها نص.

وكان شديد الورع في الفتاوى، وكان ينهى تلامذته أن يكتبوا عنه الأحاديث، فإذا رأى أحدًا يكتب عنه الفتاوى نهاه، وقال له: "لعلي أطلع فيما بعد على ما لم أطلع عليه من المعلوم فأغيِّر فتواي، فأين أجدك لأخبرك؟!".

ولما علم الله تعالى صدق نيته وقصده، قيَّض له تلامذة من بعده يكتبون فتاويه، وقد كتبوا عنه أكثر من ستين ألف مسألة. ولقد أخذ بمبدأ الاستصحاب، كما أخذ بالأحاديث المرسلة.


قال الإمام ابن القيم رحمه الله: رويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرناً بعد قرن، فصارت إماماً وقدوة لأهل السنة على اختلاف


أصول مذهبه


كان مذهبه مبنياً على خمسة أصول وهي:

1- النصوص، فإذا وجد نصاً أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه. 
2- ما أفتى به الصحابة  فإذا وجد لأحدهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها، ولم يقل إن ذلك إجماع  بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئاً يدفعه أو نحو هذا. 
3- إذا اختلف الصحابة في المسألة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال للدليل حكى الخلاف ولم يجزم بقول. 
4- الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه ويرجح ذلك على القياس، والمراد بالحديث الضعيف عند قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل والمنكر ولا ما في روايته متهم. 
5- فإذا لم يكن هناك نص ولا قول للصحابة أو أحدهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى القياس فاستعمله للضرورة. 
فهذه الأصول الخمسة هي أصول مذهبه  وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين، وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف كما قال لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. أي لم يسبق أن قال فيها أحد من الأئمة بشيء.

مؤلفات الإمام أحمد 



كتاب المسند، وهو أكبر دواوين السنة المطهرة، إذ يحوي أربعين ألفًا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، انتقاها الإمام أحمد من بين سبعمائة وخمسين ألف حديث.

الناسخ والمنسوخ، وفضائل الصحابة، وتاريخ الإسلام.

السنن في الفقه.

أصول السنة.

كتاب السنة 

كتاب أحكام النساء.

كتاب الأشربة.

العلل ومعرفة الرجال 

كتاب الأسامي والكنى.


الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله 


كتاب الزهد


وفات  الإمام أحمد رحمه الله تعالى


مرض في أول شهر ربيع الأول من سنة 241 هـ ، وتوفي ليلة الجمعة وهي ليلة الثاني عشر من هذا الشهر، ولم حضرته الوفاة أشار إلى أهله أن يوضؤه فجعلوا يوضؤنه وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي وهو يذكر الله عز وجل في جميع ذلك، فلما أكملوا وضوءه توفي رحمه الله ورضي عنه، فغسلوه وكفنوه بثوب كان قد غزلته جاريته، وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله ما لم يعلم عددهم إلا الله، ثم صلي عليه وأعيدت الصلاة عليه عند القبر. ثم أعيدت الصلاة أيضاً على القبر بعد دفنه، ولم يستقر في قبره رحمه الله إلا بعد العصر وذلك لكثرة الخلق الذين حضروا. وقد قدر عدد الذين صلوا عليه وشيعوه إلى قبره بألف ألف، وفي رواية وسبعمائة ألف  أي مليون وسبعمائة ألف رحم الله الإمام أحمد رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً، وجعله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

المراجع 

----------------------------------------------------


سير أعلام النبلاء الذهبي
صفة الصفوة لابن الجوزي
أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، عبد الغني الدقر، ط دار القلم.
تاريخ التشريع الإسلامي، الخضري.
البداية والنهاية، الحافظ ابن كثير.
الوافي بالوفيات، الصفدي.
وفيات الأعيان، ابن خَلِّكان.
الإمام أحمد بن حنبل، محمد أبو زهرة.
من أعلام المجددين صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
إعلام الموقعين عن رب العالمين  ابن قيم الجوزية
المدخل الشيخ عبد القادر بن بدران

روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق
URL
HTML
BBCode

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...